فنّ الإمساك باللحظة، أو عن كتابة لحظة الكتابة | نصوص

 

تحاصرني الآن - وأنــا أحاول أن أفكّ طلاسم اللحظة الّتي تأتي بشيء اسمه نصّ - اللحظة عينها. لا أراها، ولكنّني أشعر بهسيسها حولي. أسمع أثر خطوها كلّما تمعّنت أكثر في السؤال. نحبّ دائمًا الحديث عمّا كُتِب، ولكنّنا نغفل عن الكتابة عن اللحظة الّتي جعلت الحديث ممكنًا. يمكن لهذه التفاصيل أن تذبل إذا انتبهت اللحظة أنّني أكتبها.

لكلّ كاتب لحظته، لكلّ كاتب خصوصيّة في لحظته، لكلّ كاتب سمات تختلف معه لحظاته، ولذا؛ تختلف جينات النصّ، ويختلف منسوب الشعريّة من نصّ إلى نصّ.

أحاول دائمًا أن أكتب في البيتِ، ببيجامتي وبكلّ هزائمي. وأحبّذ أن أكون وحدي. ما إن أضع حاسوبي أمامي، وتلوح لي الورقة بيضاء بِكْرًا، حتّى تتقمّصني حالة ممزوجة من الدهشة والخوف والتردّد. ليست اضطرابًا تمامًا، لكنّها أشبه بمسّ الجنّ الّذي تطير رائحته إلى ذاكرتي من كتب الأساطير القديمة.

أعطّب كلّ حواسّ البيت: الغاز والتلفاز والتلفون، وحسب حالتي – وهالة النصّ - أضع موسيقى أو أُسْكِتُ النوتة. هناك نصوص تحبّ أن تولد في صمت، كالطفل الّذي يولد في الماء قبل أن يتدفّق صوته كراتٍ صغيرة، وثمّة نصوص تتخيّر الموسيقى الّتي تصاحب انبلاجها، وثمّة نصوص تحتّم على كاتبها أن يوقف الضجيج في منتصف لحظتها ـــ أعني ولادتها ـــ وهناك نصوص مهما وضعت لها من موسيقى فلا تجيء، أو تولد ميّتة، وهناك نصوص تسيل في الصمت أو في الموسيقى، فتجيء وتأفل ولا ينتبه كاتبها إليها.

أمّــا أنــا فأجول في البيت كلّه. أدلف كلّ غرفه بحثًا عن كلمة أو فاصلة تومئ إلى عطف البيان، أو بحثًا عن كناية وقعت عندما أرّقَ دوران ملعقة العسل في كأس شاي – أعددته في لحظة أخرى اسمها هدنة - دوران أركان الكناية في رأسيِ. أحيانًا، كان عليّ أن أباغت النصّ، أن أقنعه بأنّني عدلت تمامًا عن الكتابة، وأنّني سأنصرف إلى أشياء أخرى فأتظاهر بمسح غبار المكتبة، علّ استعارة فتيّة تخرج. أليست مكتبتي قمقمي؟

وحسب نوع الكتابة – كما جنس المولود – أهيّئ حواسّي فتتوثّب جميعها؛ فالنثر أكثر تسامحًا من الشعر وأقلّ صلفًا. ولذا؛ قرّرت منذ زمن طويل أن أكتفي بأن أكون قارئة نهمة للشِّعر، أفرد شعر رأسي في حضرته فتتشرّب مسامه المطبوع منه. وقرّرتُ – أو قرّرتْ غريزتي عنّي – أن أسبح حرّة في بحر النثر كفلّاح بسيط ملكه في ما ينثر في الأرض، ومَلَكَتي في ما تنثر الأرض فيَّ من نثر.

ظلّ هذا التخييل يوغر في رأسي، فأتقمّص فجأة صورة الدجاج الّذي ينقر ويروح ويغدو قبل أن يضع بيضه كما نشيش الطعام في الإناء. إنّ في النثر دفئًا لا تعرفه ديوك الشعر. ومن علامات الغرور أنّ الديوك لا تجزع من تشبيهها بالشعراء، وأنّ الشعراء يرون صورة الدجاج دون شعريّة الديوك.

أكتب الآن، وما زلت أبحث عن غريزة اللحظة. أذكّر هذا البياض أمامي أنّني أصبو إلى كتابة عن اللحظة لا كتابة الكتابة. تثعب الأفكار من لحظتي الراهنة. نثَّ فجأة كلّ اللحظات السابقة العجوز والميّتة الّتي أشرفت على وضع نصوصي ورحلت. تمعّر وجهها من فكرة الفكرة: أن أكتبها؛ أن أكتب اللحظة الّتي تكتب.

تغار اللحظات من بعضها كما تغار النصوص. أحبّ نصوصًا أكثر من أخرى، وأرتاح لتذكّر لحظات دون أخرى. هناك نصوص تنساب طيّعة لكنّها لا تثير التلقّي الّذي تخيّله الكاتب؛ فتصرفها عن النظر شيئًا فشيئًا. وهناك نصوص تعسر وتدبر قبل أن تنطاع، وقبل أن تعطيك لذاذة الانتصار، وقبل أن تنسيك ما كابدته من أجل تجلّيها عندما ترضى أنفتك بإطراء القرّاء.

وعن اللحظات أقول إنّ منها ما تحبّه كالحفيد المدلّل؛ لأنّها أعطت نصًّا ناجحًا، وإنّ منها ما تنفره لأنّها وضعت نصًّا ميّتًا. واللحظات كما النصوص تعرف درجاتها ودركاتها في نفس شاعرها ــ من الشعور لا الشعر ـــ ولعلّ هذه الغيرة هي ما يوقد حطب الرغبة لديك؛ فتتآكل نصوص قديمة لتصعد أخرى من لدنها جديدة، وقديمًا قالت العرب: لا ألذّ من جِدّة القديم.

ولأنّ لحظة الكتابة تغار، وتنثر، وتبيض، وتتذوّق مقامات الموسيقى، وتتخيّر اللفظ؛ فمن أسرارها الكتمان أيضًا. لا أشي بنصّ أفكّر في كتابته لأنّني ببساطة أَئِده. والوأد أيضًا أن أقرأ جزءًا منه قبل أن أتمّه. أغذّ في سيري فتبتلعني الحروف ولا أبوح.

وللحظات الّتي تحفّ عمليّة الكتابة أعمار مختلفة وقامات مختلفة وأوزان مختلفة: فلحظات في مقتبل الكتابة تشير على صاحبها بتصويب فكرة أو تعديلها، أو تمهله حتّى يفرغ منها. واللحظات البدينة تجعل مشي المجاز بطيئًا فيتأمّله القارئ بتأنٍّ لم يفكّر فيه الكاتب. واللحظة الطويلة نخلة تشدّ عروض النصّ فتلتئم الأفعال المعتلّة فيه.

ولأعترف أنّني صادفت لحظات من نوع آخر، لحظات تُلازِمك مثل الظلّ فتوحي إليك بجملة تلتقطها من سرديّة عابرة وأنت عائد من العمل ــ أحمل معي دائمًا ورقة صغيرة لأكتب فوقها نبوءة اللحظة ــ ومن اللحظات ما ينبّهك إلى أنّك تمضغ معنًى كتبته قديمًا. وهناك لحظة تصحو في نومك لأنّها تتربّص بسرديّات منامك لتدلّك إلى فقرة أو صورة أو تشبيه، أو لتوعز إليك فتقرأ فصلًا من «طوق الحمامة» قبل أن تشرع في الكتابة. حدث ذلك معي مرّة. أفقت من نومي ودوّنت على ورقة بجانبي "الفصل الثاني من «طوق الحمامة»" ــ نسيت رقم الصفحة الآن، لكنّني ما زلت أذكر وجه أمّي حائرًا أمامي في ذلك الفجر البعيد، يسألني عمّا أفعل مع ابن حزم ـــ ولم أنتبه إلى اللحظة الّتي أفقت فيها وكتبت، ولم أنتبه إلى لحظة المنام، وإلى نباح اللحظة وئيدًا في منامي.

إنّ لحظة الكتابة أشبه بمكاشفة، كعاشق يفتح أزرار حبيبته لأوّل مرّة. أذكر أنّني قرأت مرّة كتابًا عن «لحظة المكاشفة الشعريّة»، سقط عنّي اسم صاحبه الآن. لكنّها مكاشفة تتّشح بشعريّة عالية نخبويّة. لحظة تومض ولا تُرى، وتخلّف أثرًا من الضباب.

بيد أنّ اللحظات تؤثّر في سيرورة النصّ وتتأثّر. تلك هي المادّة، وعلى الكاتب أن يقلق إذا تأثّرت اللحظة بما يُفسد استمرارها فتهجرك. فلكي تحلّ لك اللحظة، عليك أن تكون قارئًا تقرأ أكثر ممّا تكتب، وكلّما انخفض منسوب القراءة بحّت اللحظة وشحّت السرديّة. ولأنّها تتأثّر عليك ألّا تؤرّقها أو تقطع مرورها. ولا تحاول أن تستجدي منها تفاصيل عن تفاصيلها أو عن انبثاقها، إذا لم تفلح في الموازنة بين تلقّي اللحظة وتلقّي التلقّي الّذي ستخبزه نصًّا ساخنًا يُسكت جوع الرغبة.

تجزع لحظة الكتابة إذا ألمّ بك ’العقم المفاجئ‘ على حدّ عبارة شاعر أحبّه؛ فترى في عينها شجنًا. تقرفص أمامك مثل كلب لا يبتعد عن صاحبه المريض. والعقم المفاجئ أن تنقطع عنك فجأة دورة الكتابة. تصاحبك اللحظة في كلّ يأسك، تهيم معك في صحراء المعاني اليابسة، وتنتظر معك أن يمتشق برعم الحرف الأخضر. وتبكي، تبكي اللحظة سطورًا غزيرة إذا لقّم البرعم الأبجديّة من جديد.

ومن حقّها عليّ أن أعترف. تدرك اللحظة أنّها قربان لي ولنصّي وللنيل، ولا تبخل المكاشفة. يأتيني قطّها حاملًا لحظة نصّي بين أسنانه. تعرف لحظة الكتابة أنّها تموت لحظةَ ولادة النصّ، غير أنّها لا تتجلّى فيه هو فقط ــــ فالنصوص تعترف بجميل لحظتها عليها وعليّ ــــ ولكنّها تنبعث من جديد في المواليد الجدد من اللحظات المنذورةِ للمواليد الجدد من النصوص. 

تحدّد اللحظة الفارق: ففي وسع لحظة أن تحلم كما يحلم الكاتب، وفي وسع اللحظة أن تحلم بدلًا منه، أعني أن تنوبه، هل أكرم من لحظة تنوب فتحلم نيابة عن أحد؟

إنّ هذا الفارق بالذات ما تحاول الكتابة أن تجيب عنه.

أنــا لا أمسك باللحظة إلّا من طرف ثوبها... تسير بي إلى النصّ، وأمشي إليها في نصوص أخرى.

 


 

إشراق كرونة

 

 

 

كاتبة تونسيّة، باحثة وطالبة دكتوراه، وأستاذة في «جامعة ليون»، فرنسا، وتكتب في الأدب العربيّ في عدد من المجلّات الثقافيّة.